حسن المنيعي و”شعرية الدراما المعاصرة”

تؤكد الشعريات الحديثة أن المسرح فن متحول، يقوم على الابتكار الذاتي، وعلى التنظير الذي يراعي أصول الدراما التقليدية. إنه فن اجتماعي بامتياز، يجعل المرء دوما في علاقة مع لغات ركحية، تتأرجح بين ما هو أصيل وحديث.
تلك إحدى الخلاصات الأساسية التي يقود إليها كتاب “شعرية الدراما المعاصرة” الصادر عن “المركز الدولي لدراسات الفرجة” بمدينة طنجة. وهو عبارة عن رؤى تجديدية في المسرح، أعدها الناقد المغربي الدكتور حسن المنيعي وترجمها عن منظرين ومبدعين مسرحيين غربيين. فمنذ سبعينيات القرن الماضي، شهد المسرح تحولات كبيرة كان أهمها انفتاحه على الفنون الأخرى التي جعلت الخشبة تعجّ بأساليب درامية جديدة، يظلّ النص المسرحي في بعضها عنصرا ثانويا، خصوصا بالنسبة للعروض التي تعتمد مفهوم “المسرح الشامل” الأرتي (نسبة إلى أرتو).
ويرى الناقد أنه إذا كانت هذه التحولات تعدّ إسهاما للمخرجين في المقام الأول (خصوصا الذين يمارسون مسرحا احتفاليا له علاقة مباشرة بالحياة اليومية)، فإن المنظّر الألماني هانس ـ تيز ليمان قد اهتم بهذه التحولات، وعمل على رصدها في نهاية التسعينيات وذلك في كتابه “ما بعد الدراما” الذي يمكن اعتبار ما ورد فيه شعرية درامية تطرح بديلا عن “المسرح الدرامي” و”المسرح الملحمي”. وقد دافع عن مسرح يعتمد على “الأدائية” Performance أي على مسرح يقوم على اللعب، ويتحرر من النص الدرامي، ولا يعير أدنى اهتمام لوجود تراتبية بين المنظومات الركحية والأكسسوارات المستعملة، وعلى الخصوص بين الخشبة والنصوص، ما دام أن هذه الأخيرة لن تكون ركحية (أي قابلة لأن تقدم عبر اللعب والكلام)، وإنما هي على العكس من ذلك تكتب ضد الخشبة، التي لا تعمل على تجسيد محتوياتها، بقدر ما تقترح أساليب فنية تجعلها تنفتح على عوالم جديدة.
من هنا، يشكل “مسرح ما بعد الدراما” ثورة ضد الإخراج المسرحي الذي يقوم بتفكيك النص، ويدعو إلى توسيع أفق الممارسة المسرحية اعتمادا على كتابة دراماتورجية تخترق الأجناس، وتنصهر فيها عدة أساليب درامية تحول الفضاء الركحي إلى بؤرة تمسرح مشتركة بين الجمهور والممثلين، تقوم على الكتابة عبر الفضاء والزمن الجسد، وليس من خلال النص، حيث يتكفل جسد المؤدي (الممثل) بإبراز الحالة والموقف، ولا يعمل على محاكاة شخصية ما، وإنما يتجنب الاندماج في باطنيتها أو مشاعرها، لاكتشاف مشاعره وإحساساته الدفينة.
في دراسة بعنوان “أوضاع الدراما المعاصرة” لــ”ماري إيزابيا بلا دمروي”، يبدو مستقبل الدراما متأرجحا بين نسيان وإعادة تبني أساليبها، ما دام أن كل “دراماتورجيا” تساهم في “تأزيم” أشكال درامية سابقة لاكتشاف لغتها الخاصة. وبالتالي، فإن الكتابة الدرامية تحتضن ـ اعتمادا على البحث والموروث ـ عدة أدوات فنية تنحدر من آفاق مختلفة، وتساعدها ـ دوما ـ على إثراء حوارها مع الخشبة.
أما “فلور غارسان مارو”، فيقدم قراءة في كتاب جان بيير سرزاك “شعرية الدراما الحديثة” حيث يخلص إلى القول إن الدراما الحديثة ما زالت حاضرة، وإذا كانت تبتعد عن نفسها، فإنها تفعل ذلك من أجل أن تتطور خارج عالمها. ومن ثم، فإن ردم حدودها لا ينعكس في قطيعة نهائية مع ذاتها، وإنما في أنساق “هجنتها” المتعددة، وفي حركات التخلي عن مكاسبها والعودة إليها، والتي تجعل منها شكلا منفتحا بوعي كبير.
ويلاحظ “جوزيف دنان” في مقال عن “الحوار السردي وحوار الإشارة المسرحية” أن حركية الفضاء والزمن ووجهات النظر هي التي تفتح أمام الشكل الدرامي (وليس الحوار فقط) مناطق جديدة كانت، قبْلا، حكرا على الرواية، واليوم على السينما.
وتحت عنوان “تقاسم الأصوات”، يوضح “جان بيير سرزاك” أن من خصائص الدراما الحديثة والمعاصرة أن الحدث لم يعد يجري في حاضر مطلق، كما لو أن الأمر يتعلق بسباق نحو النهاية (أي الكارثة)، بل أصبح ينحصر ـ أكثر فأكثر ـ في عودة تأملية ومتسائلة إلى دراما “ماضية” وإلى كارثة سبق وأن حدثت دائما. منذ ذلك الوقت، صار المؤلف يقوم بوظيفة ـ أو على الأصح ـ بدور “الآلاتي” (في تناغم مع هذا الصعود نحو الزمن)، وذلك عندما أخذ يضاعف تدخلاته، ويتوسط بين الخشبة والقاعة، وبين الشخصيات والجمهور.
وعند مقاربة حسن المنيعي لـ”دراما العبث: مفهوم المادة والآلية عند يونسكو”، يشير إلى أن العالم الذي يركز عليه “يونسكو” في كتابته الدرامية هو وليد قناعة لديه عن وضعية الإنسان الحديث، وعن المسرح الذي يجب العمل على إعادته إلى طابعه البدائي والتلقائي. ولن يتحقق ذلك ـ في نظره ـ إلا عن طريق الالتزام بمبدأين أساسيين هما: المبالغة المقصودة، والأهمية التي تعطى لحاستي البصر والسمع. ويرى يونسكو أن كل شيء جائز في المسرح، إذ يكفي أن يعتمد الدراماتورج الكاريكاتير والتوجه إلى الحواس لإبهار المتفرج أو لإزعاجه، وهذا ما يجعل منه فنا لا يمكن مقاربته بالأخلاق أو التعلم ولا بالسياسة أو الدعاية.
ومن شعريات الدراما الإنجليزية المعاصرة، يختار مؤلف الكتاب دراسة للباحثة “إليزابيث أنجيل بيريز”، بعنوان “مسرح الكارثة ورهاناته”، متوقفة عند تجربة الكاتب والمخرج المسرحي “هاورد باركر”، حيث تفيد أن مسرح الكارثة تمت بلورته انطلاقا من رهان مزدوج: شاعر وفلسفي في الوقت نفسه، لا يحكمه صدى لمسرح القسوة، وإنما باعتباره دارماتورجيا ذات توجهات راديكالية وأصيلة. وتؤكد الباحثة أن “باركر” لم يحرص على تقديم دروس في الأخلاق أو النضال من أجل مسرح تعليمي ـ كما فعل معاصروه ـ بل إنه رفض فكرة مسرح يقوم على رسالة أو ذي بعد انتقادي. الشيء الذي جعلنا مباشرة أمام مسرح ذي معنى تراجيدي عميق، يتسم بتجذر الهزلي في صلب المأساوي، وذلك من خلال تعبير مفرط عن الدناءة والرعب. من هنا، تعد دراماتورجيا “باركر” كارثية بالمعنى الحقيقي للكلمة: أي إنها تقترح نفسها باعتبارها “دراماتورجيا التحول”، لا التحول الذي يؤثر على الحكاية، كما يرى أرسطو (بمعنى أن الكارثة تحول الخير إلى شر)، وإنما تحول الأنماط الكتابية، الشيء الذي يجعل مسرح الكارثة مغايرا، لا يشبه أي مسرح آخر، لأنه يتأسس ضد كل الأشكال الدرامية السابقة، وتحديدا ضد المسرح الأرسطي والمسرح البريشتي.
آخر دراسة في الكتاب، تنصب على “النقد المسرحي: قضية وجهات نظر، ومنعطفات واختيارات”، حيث يتوقف الكاتب “كرستيان بييت” عند سؤال الناقد الذي هو أيضا سؤال المتفرج أمام ثراء العلامات وصناعة المشاهد وكل العناصر الممكنة في الفرجات، حيث تنبع صعوبة السيطرة على التباين والانفجار والثراء غير المتناهي ومبدأ التفكيك من خلال توظيف علوم مختلفة تطبق على موضوع هو متباين في حد ذاته. ويوضح صاحب الدراسة أن الناقد ـ بعد وقوفه على التباين الهائل لوجهات النظر الخاصة عن المسرح والفرجات، وعلى تنوع المواقف النقدية تجاه الظاهرة المسرحية ـ يتعين عليه أن يختار انتماءه، وذلك على مستوى التوجهات التاريخية والسياسية والفلسفية الشكلية التي تطبع فكره، وكذا على مستوى المكانة التي يريد احتلالها عبر كتابته؛ ذلك أن الفرجة والمسرح هما موضوعان اجتماعيان وجماليان يفرضان علينا أن “نحكم”، لأنهما يفعلان ذلك. لذلك، فإن كل واحد منا يتورط، ذات مساء، وبوعي كامل، عبر إصدار حكمه الخاص عن ما سمعه وشاهده أو فهمه، لأن الحكم على من يحكم (جماعة أو فردا) اعتمادا على اختيارات واضحة ومسؤولة ومتشددة وموثقة وحازمة ـ هو ما يحدد أيضا وظيفة النقد.
الطاهر الطويل

ذات صلة